لبنان اليوم امام لحظة مفصلية من تاريخه، وسَط تعقيدات داخلية خانقة وتطورات إقليمية متسارعة. فالأزمات الاقتصادية المتلاحقة، والانقسام السياسي، والجمود في مؤسسات
الدولة، تأتي جميعها في ظل بيئة إقليمية مضطربة، تجعل من لبنان ساحة محتملة لتصفية الحسابات بين أطراف الصراع في المنطقة. وفي هذا السياق، تبرز التحذيرات الأميركية المتكررة،
خصوصاً على لسان المبعوث الخاص لسوريا وسفير واشنطن في أنقرة، توم باراك، باعتبارها إشارات إنذار جدية، تستدعي من القيادة اللبنانية أعلى درجات الوعي والتحرك السريع.
منذ البداية، لم يكن كلام باراك مجرد تصريح دبلوماسي، بل بدا أقرب إلى إنذار واضح وصريح إذا لم يتحرك لبنان، فقد يعود إلى بلاد الشام. هذا التعبير القاسي يعبر عن قلق أميركي عميق من
انزلاق لبنان مجدداً نحو الفوضى أو وقوعه بالكامل تحت قبضة المحاور الإقليمية المتصارعة، لا سيما بين إسرائيل وإيران، وفي ظل عودة سوريا بقوّة إلى المسرح الإقليمي. كما أن تصريح
باراك بأن السوريين يعتبرون لبنان منتجعهم الساحلي، هو توصيف دقيق لانحسار القرار السيادي اللبناني في حال غابت المبادرة الوطنية.
لكن وبعد الانتقادات الواسعة التي أثارتها هذه التصريحات، عاد باراك لتوضيح موقفه عبر تغريدة أكد فيها أن حديثه عن عودة لبنان إلى بلاد الشام لا يندرج في خانة التهديد، بل يعكس
واقعاً جديداً تشهده المنطقة، وأنه أشار إلى التقدّم الذي أحرزته سوريا في الانفتاح الاقتصادي والدبلوماسي، مع تأكيده أن العلاقة المستقبلية بين بيروت ودمشق يجب أن تُبنى على
أسس ندية واحترام للسيادة. غير أن هذا التوضيح لم ينجح في تبديد المخاوف اللبنانية من أن تكون واشنطن تدفع ضمنياً نحو مسار إقليمي موحّد يشمل سوريا ولبنان، في سياق إعادة
تموضع شامل في الشرق الأوسط.
في رؤية باراك والإدارة الأميركية، إن المسألة الجوهرية تكمن في قضية سلاح حزب الله، فواشنطن ترى أن هذا السلاح يقوّض سلطة الدولة، ويمنع أي خِطَّة إنقاذ اقتصادي أو سياسي،
ويجعل من لبنان رهينة لاشتباكات إقليمية لا طائل له بها. ولهذا، جاء الاقتراح الأميركي شاملًا نزع سلاح الحزب، مقابل مساعدات لإعادة الإعمار، وضمانات لوقف التصعيد الإسرائيلي،
وللانسحاب من النِّقَاط المحتلة الخمس في الجَِنُوب اللبناني.
وفي موقف غير مسبوق، حَمَل باراك مؤخراً رسالة مباشرة لحزب الله، مفادها فلنتفاوض، حددوا الوقت والمكان، ويمكننا من حكم أي مكاسب سياسية تريدونها مقابل السلاح والسلام.
وعلى ما يبدو، فإنه عرض غير معتاد، تزامن مع محاولات عربية للتوسط في استضافة حوار مباشر أو غير مباشر بين الحزب وواشنطن. واللافت في هذا السياق، هو الإشارة للمرة الأولى
من قبل مسؤول أميركي إلى وجود جناحين لحزب الله، جناح سياسي يعمل ضمن النظام اللبناني، وآخر عسكري مسلّح تدعمه إيران. وهو ما فُهم في بعض الأوساط كإشارة إلى إمكان
التفاوض مع الجناح السياسي كمدخل للحل.
غير أن هذا التوجه لم يمر من دون تحفّظات، إذ حذّر مراقبون من أن الفصل بين جناحي الحزب، وإن كان براغماتياً، قد يصب في نهاية المطاف في مصلحة الحزب على حساب الدولة، ويقلّص
من دور المؤسسات الرسمية في الإمساك بملف السلاح، ويدفع نحو تفاوض مباشر بين الحزب وواشنطن، كما حصل سابقاً مع طالبان وحماس.
أما السلطات اللبنانية، فقد سبق أن ردت على المقترح الأميركي بوثيقة من سبع صفحات، طالبت فيها بانسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي المتنازع عليها، خصوصاً مزارع شبعا، وأكّدت
التزام الدولة بسيطرة كاملة على السلاح، مع تعهد صريح بتفكيك ترسانة حزب الله في الجنوب. هذا الرد اعتبره باراك مرناً جداً لكنه شدد في الوقت ذاته على أن الوقت لا يعمل لصالح لبنان،
وأن صبر الإدارة الأميركية، وخاصة الرئيس ترامب، ليس بلا حدود، رغم تأكيده أن ترامب يحب لبنان كما لم يفعل أي رئيس أميركي منذ أيزنهاور.
في موازاة هذه التحركات، أشار باراك إلى أن الجيش اللبناني هو الطرف الأكثر قبولًا لدى اللبنانيين، لكنه يعاني من ميزانية محدودة، ولم يتقاض عناصره رواتبهم منذ أشهر، ما دفع قوات
اليونيفيل إلى تعبئة 10,000 جندي لسد النقص. ودعا إلى تمكين الجيش ليقوم بدور التفاوض والتجميع التدريجي لسلاح حزب الله، بدءاً من الأسلحة الثقيلة كالصواريخ والطائرات المسيرة،
ليصار إلى تسليمها لمخازن مراقبة تحت إشراف دولي أميركي – فرنسي – لبناني، لتفادي أيّ حرب أهلية.
لكن في المقابل، حذِّر باراك من أن استمرار الانتهاكات الإسرائيلية سيستمر حتى تُسَلَّم آخر رصاصة يملكها حزب الله، ملمحًا إلى أن الغطاء الأميركي للَجم أي تصعيد إسرائيلي قد أصبح
مرفوعاً، وأن تل أبيب قد تتحرك عسكرياً في أي لحظة من مراحل التفاوض، حتى وإن لم يصل الوضع إلى الحرب الشاملة.
من جانبه، يلتزم حزب الله الصمت إزاء الطروحات الأميركية، بينما تشير معلومات إلى أن رئيس مجلس النواب نبيه بري هو المكلّف بالتواصل غير المباشر مع الأميركيين. ويرى مقربون من
الحزب أن المرحلة دقيقة جداً، ويجب التعامل معها بحذر، خصوصاً مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية التي باتت تستهدف القاعدة المدنية والتنظيمية للحزب، وليس فقط بنيته العسكرية.
كما أن من بين النّقَاط اللافتة التي كشف عنها باراك، ربطه بين أي تطبيع محتمل بين سوريا وإسرائيل وضرورة أن يشمل لبنان والعراق لاحقاً. ونقل عن مسؤولين سوريين قولهم إنهم
منفتحون على تفاهمات مع تل أبيب، مما يجعل من مستقبل لبنان في قلب أي إعادة ترتيب إقليمي وفقاً لتصريحات باراك، سواء أراد أم لم يرد، وهو ما يطرح تساؤلات مصيرية حول الموقع
الجيوسياسي للبنان في مرحلة ما بعد الحروب.
في ضوء هذه المعطيات، لا يمكن للبنان أن يبقى متفرّجاً. فالعرض الأميركي وإن كان محاطاً بالتعقيد والمخاطر يمثّل فرصة قد لا تتكرر، لإعادة بناء الدولة، وتمكين مؤسساتها، وإنهاء حالة
الانقسام المسلّح. أما التأخر أو التردد، فقد يدفع بلبنان نحو انهيار شامل، أو تحويله إلى ساحة حرب بالوكالة، أو حتى إلى إقليم منسي ضمن كيانات أكبر تتصارع عليه. ولهذا، فإن إيلاء
التحذيرات الأميركية الأولوية القصوى، لا يعني الخضوع أو التبعية، بل ممارسة فعل السيادة بذكاء وجرأة. فالمطلوب من القيادة اللبنانية أن تبادر، وأن تلتقط الفرصة قبل أن تُفرض عليها
الشروط تحت وقع التقوقع والانحسار.